كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {وَلاَ تُشْطِطْ} يقول: ولا تَجُر: وقد يقول بعض العرب: شططتَ عَلىّ في السَّوم، واكثر الكلام أَشططت. فلو قرأ قارئ {وَلاَ تَشْطِطْ} كأنه يذهَبُ له إلى مَعْنى التباعد و{تَشْطُطْ} أيضًا. العرب تقول: شطَّت الدار فهى تشِطّ وتَشُطّ.
وقوله: {وَاهْدِنَآ إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} إلى قَصْد الصراط. وهذا ممَّا تدخل فيه {إلى} وتخرج منه.
قال الله {اهدِنَا الصراطَ المستقيم} وقال: {وهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} وقال: {إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} ولم يقل إلى فحذفت إلى من كل هذا. ثم قال في موضع آخر {أَفَمَنْ يَهْدِى إلى الحَقّ} وقال: {يَهْدِى إلىَ الحَقِّ وَإلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} ويقال هديتك للحق وإليهِ قال الله {الذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لنَهْتَدِى} وكأن قوله: {اهدنَا الصراط} أعلمنا الصراط، وكأن قوله: {اهدنا إلى الصّراط} أرشِدنا إليْه والله أعلم بذلكَ.
{إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}.
وقوله: {إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} وفى قراءة عبد الله {كَانَ لَهُ} وربّما أدخلت العرب {كان} على الخبر الدائِم الذي لا ينقطع. ومنه قول الله في غير موضع {وكان رَبُّك قديرًا} {وكان الله غفورًا رحيمًا} فهذا دائم. والمعْنى البيّن أن تُدخل {كان} عَلى كل خبر قد كان ثم انقطع؛ كما تقول للرجل: قد كنت موسرا، فمْعنى هَذَا: فأنتَ الآنَ مُعْدِم.
وفى قراءة عبد الله {نَعْجَةً أُنْثَى} والعَرَب تؤكّد التأنيث بأُنثاه، والتذكيرَ بمثل ذلكَ، فيكون كالفَضْل في الكلام فهذا منْ ذلكَ. ومنه قولكَ للرجل: هذا والله رجل ذَكَر. وإنما يدخل هذا في المؤنّث الذي تأنيثه في نفسه؛ مثل المرأة والرجل والجمل والناقة. فإذا عدَوت ذلكَ لم يجز. فخطأ أن تقول: هذه دارٌ أنثى، ومِلحفة أنثى؛ لأنَّ تأنيثهَا في اسمها لا في مَعْنَاهَا. فابنِ على هذا.
وقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبنى. ولو قرئتْ {وَعَازَّنى} يريد: غَالبنى كان وَجْهًا.
{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}.
وقوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} المعنى فيه: بسؤاله نعجتك، فإذا ألقيت الهَاء من السؤال أضفت الفعل إلى النعجة. ومثله قوله: {لاَ يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دعَاءِ الخَيْرِ} ومَعْنَاهُ من دَعائِه بالخير: فلمَّا أَلقى الهاء أضاف الفعْل إلى الخير وألقى من الخير الباء، كقول الشاعر:
ولَسْتُ مُسَلِّمًا ما دمتُ حَيًّا ** عَلى زيدٍ بتَسليم الأمِير

إنما معناه: بتسليمى عَلى الأميرِ. ولا يصلح أن تذكر الفاعل بعد المفعول به فيما ألقيْت منه الصفة. فمن قَالَ: عجِبتُ من سؤال نعجتكَ صَاحِبُكَ لم يجز لَهُ أنْ يقول: عجبت مِنْ دعاء الخير الناسُ، لأنك إِذا أظهرت الآخِر مرفوعًا فإِنما رَفعُه بنيَّةِ أن فَعَل أو أن يفعل، فلابد من ظهور الباء وما أشبَهها من الصّفاتِ. فالقول في ذلكَ أن تقول عَجِبْتُ من دعاء بالخير زَيْدٌ، وعجبت منْ تسليمٍ عَلى الأمير زيْدٌ. وجَاز في النعجة لأنَّ الفعل يقع عليها بلا صفة؛ فتقول: سألتكَ نعجة، ولا تقول: سَالتك بنعجة. فابن على هذا.
وقوله: {وَظَنَّ داود أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي عِلم. وكلّ ظنٍّ أدخلته عَلى خبرٍ فجائز أنْ تجعلهُ عِلمًا؛ إلاّ إنه عِلم بما لا يُعَايَن.
{إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}.
وقوله: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} يعنى الخيل، كان غَنِمها سُليمان بن داود من جَيشٍ قاتله فظفِر به. فلمّا صَلّى الظهر دَعا بها، فلم يزل يَعرضها حتّى غابت الشمس ولم يصلّ العصر. وكان عندهم مهيبًا. لا يبْتَدأ بشىء حتى يَأمر به، فلم يذكر العَصْر. ولم يَكنْ ذلكَ عن تجبُّر منه، فلمَّا ذكرها قال: {إنَّى أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ} يقول: آثرت حُبّ الخيل، والخير في الكلام العرب: الخيل. والصَّافنات- فيما ذكر الكلبى بإسناده- القائِمة عَلى ثلاث قوائم وقد أقامت الأخرى عَلى طرف الحافر من يدٍ أو رجلٍ. وهى في قراءة عبد الله {صَوَافِنَ فإذَا وَجَبَتْ} يريد: معقولة عَلى ثلاث. وقد رأيت العرب تجعَل الصَّافن القائِم عَلى غير ثلاث. وأشعَارهم تدلّ عل أنها القِيام خاصّةً والله أعلم بصوابه: وفى قراءة عبد الله {إنّى أحببت} بغير {قال} ومثله ممّا حذف في قراءتنا منه القول وأثبت في قراءة عبد الله {وَإِذْ يَرْفَع إِبراهيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتَ وإسْمَاعِيلُ ويَقُولاَنِ} وليْسَ في قراءتنا ذلك. وكلّ صَوَاب.
{رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}.
وقوله: {فَطَفِقَ} يريد أَقبل يمسح: يضرب سوقها وأعناقها. فالمسح القطع.
{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ}.
وقوله: {عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} يريد: صَنَما. ويقال: شيطان.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
وقوله: {لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي} فيريد سُخرة الريح والشياطين.
{فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ}.
وقوله: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} والرُخاء: الريح الليِّنة التي لا تعصف. وقوله: {حَيْثُ أَصَابَ} حيث أراد.
{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وقوله: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يقول فمُنَّ به أي أعط، أو أمسك، ذاكَ إليك. وفى قراة عبد الله {هذا فامنن أو أمسك عطاؤنا بغير حساب} مقدّم ومؤخّر.
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}.
وقوله: {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ}.
اجتمعت القراء على ضمّ النون منْ {نُصبٍ} وتخفيفها. وذكروا أن أبا جعفر المَدَنىّ قَرأ {بنَصَبٍ وعذابٍ} ينصب النون والصاد. وكلاهما في التفسير واحد.
وذكروا أنه المرض وما أصابه منَ العَناء فيه. والنُّصْبُ والنَّصَبُ بمنزلة الحُزْن والحَزَن، والعُدْمِ والعَدَمِ، والرُّشْد والرَشَد، والصُّلْب والصَّلَب: إذا خُفِّف ضُمّ أوله ولم يثقّل لأنهم جعلوهما على سَمْتين: إذا فتحُوا أوّله ثقّلوا، وإذا ضَمُّوا أوله خَفَّفُوا، قال: وأنشدنى. بعض العرب:
لئِن بعثت أم الحُميدَينِ مَائِرا ** لقد غنِيت في غير بؤسٍ ولا جُحْد

والعرب تقول: جَحِد عيشُهم جَحَدًا إذا ضاق واشتدّ، فلمّا قال: جُحْد وضمّ أوله خَفَّفَ. فابن على ما رأيت من هاتين اللغتين.
{وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}.
وقوله: {ضِغْثًا} والضِّغث: ما جمعته من شىء؛ مثل حُزْمة الرَطْبَة، وما قام على سَاقٍ واستطال ثم جَمعته فهو ضِغْث.
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ}.
وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَآ} قرأتِ القراء {عِبَادَنَا} يريدونَ: إبراهيم وولده وقرأ ابن عباس: {واذكرعَبْدَنا إبراهيم} وقال: إنما ذكر إبراهيم. ثم ذكرت ذريّتُه منْ بعده. ومثله: {قالُوا نَعْبُدُ إلهَكَ وإِلهَ أبِيك} على هذا المذهب في قراءة ابن عباس. والعَامَّة {آبائِكَ} وكلّ صَواب.
وقوله: {أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} يريد: أولى القوَّة والبصر في أمر الله. وهى في قراءة عبد الله: {أولِى الأيْدِ} بغير ياء، فقد يكون لَهُ وجهان. إن أراد: الأيدى وحذف الياء فهو صواب؛ مثل: {الجوَارِ} و{المُنادِ} وأشباه ذاكَ. وقد يكون في قراءة عبد الله من القوّة من التأييد.
{إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ}.
وقوله: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} فردّ {ذِكْرَى الدَّارِ} وهى مَعرفة على {خَالِصَةٍ} وهى نكرة. وهى كقراءة مَسْروق {بِزِينةٍ الكواكب} ومثلها قوله: {هَذَا وإنَّ لِلطَّاغين لشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} فردّ جهنّم وهى معرفة على {شرّ مآبٍ} وهى نكرة. وكذلك قوله: {وإنّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحة} والرفع في المعرفة كلّها جائز على الابتداء. أنشدنى بعض العرب:
لعمرك ما نخلى بدارِ مَضِيعَةٍ ** وَلاَ ربُّهَا إن غاب عَنْهَا بخائف

وإن لها جارين لن يغدِرا بهَا ** رَبِيبُ النَّبِىِّ وابنُ خير الخلائف

فرفع على الابتداء.
وقد قرأ أهل الحجاز {بخالصَةِ ذِكْرَى الدار} أضافوها. وهو وجه حَسَنٌ. ومنهُ: {كَذَلكَ يَطْبَعُ اللهُ على كُلّ قَلْب مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ} ومَنْ قال: {قلبٍ متكبّرٍ} جَعَل القلب هوالمتكبّر.
{وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الأَخْيَارِ}.
وقوله: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ} قرأه أصحاب عبد الله بالتشديد. وقرأه العوامّ {الْيَسَعَ} بالتخفيف. والأوَّل أشبه بالصَّواب وبأسماء الأنبياء من بنى إسرائيل. حدّثنا أبو العباس قال حدثنا محمد قال حدثنا الفراء قال حدَّثنى محمد بن عبد العزيز التَيْمِىّ عن مُغيرة عن إبراهيم أنه قرأ {واللَّيْسَع} بالتشديد. وأما قولهم {والْيَسَع} فإن العرب لا تُدخل على يفعَل إذا كان في مَعْنى فلانٍ ألِفًا ولامًا. يقولونَ: هَذا يَسَع، وهذا يَعْمر، وهذا يزيد. فهكذا الفصيح من الكلام. وقد أنشدنى بعضهم:
وجدنا الوليد بن اليزيد مباركًا ** شديدًا بأَحناء الخِلاَفة كَاهلُهْ

فلمّا ذَكَر الوليد في أول الكلمة بالألِف واللام أَتبعه يزيد بالألف واللام وكلّ صواب.
وقوله: {وَذَا الْكِفْلِ} يقال إنه سُمّى ذا الكفل أن مائة من بنى إسرائيل انفلتوا من القتل فآواهم وَكَفَلَهُمْ. ويقال: إنه كَفَل لله بشىء فوفى به. والكِفْل في كلام العرب: الجَدّ والحَظّ فلو مُدح بذلك كان وَجهًا على غير المذهبين الأوّلين.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ}.
وقوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ} ترفع {الأبواب} لأن المعْنى: مفتَّحَةً لهم أبْوَابها. والعرب تجعَل الألف واللام خَلفا من الإضافَة فيقولون: مررت عَلى رجلٍ حَسَنةٍ العَيْنُ قبيحٍ الأنفُ والمعْنى: حسنةٍ عَينُه قبيحٍ أنفُه. ومنه قوله: {فَإِنّ الجَحيمَ هي المَأْوَى} فالمعنَى- والله أعلم-: مأْواه. ومثله قول الشاعر:
ما ولدتكم حيَّةُ بنة مالك ** سِفَاحًا ومَا كانتْ أحاديث كاذب

ولكن نرى أقدامنا في نعالكم ** وآنفُنَا بين اللحى والحواجب

ومعناه: ونرى آنفنا بين لحِاكم وحواجبكم في الشبَه. ولو قال: {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابَ} عَلى أن تجْعَل المفتّحة في اللفظ للجنات وفى المعْنَى للأبواب، فيكون مثل قول الشاعر:
ومَا قومى بثعلبة بن سَعْدٍ ** ولا بفزارة الشُعْر الرقابَا

والشُعْرى رقابا. ويروى: الشُّعْر الرقابا.
وقال عدِيّ:
مِن ولىٍّ أوْ أخى ثِقَةٍ ** والبعيد الشاحِط الدّارا

وكذلك تجعَل معنىالأبواب في نَصْبها، كأنك أردت: مفتَّحة الأبوابِ ثم نوَّنت فنصبت. وقد يُنشَد بيت النابغة:
ونأخذ بعده بذُناب دَهرٍ ** أجَبَّ الظهرَ ليسَ له سَنَامُ

وأجَبِّ الظهرِ.
{وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ}.
وقوله: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} مرفوعة لأنّ {قاصرات} نكرة وإن كانت مضافة إلى معرفة؛ ألا ترى أن الألف واللام يَحْسنان فيها كقول الشاعر:
من القاصرات الطَرْفِ لو دَبّ مُحْوِل ** من الذَرّ فوق الإتْب منها لأثَّرا

الإتب: المئزِر فإذا حسُنت الألف واللام في مثل هذا ثم ألقيتها فالاسم نكرة. وربما شبَّهت العرب لفظه بالمعْرفة لِمَا أضيف إلى الألف واللام، فينصبون نعته إذا كان نكرة؛ فيقولونَ: هَذَا حَسَن الوجه قائمًا وذاهبًا. ولو وضَعْت مكان الذاهب والقائم نكرة فيها مدح أو ذمّ آثرت الإتباع، فقلت: هذا حَسَنُ الوجه موسر، لأنَّ اليَسارة مدح. ومثله قول الشاعر:
ومَن يُشوِه يوم فإن وراءه ** تِبَاعة صَيّاد الرّجالِ غَشُومِ

قال الفراء: وَمَن يُشوِه أي يأخذ شَوَاه وأطايبه. فخفض الغشوم لأنه مدح، ولو نصب لأنَّ لفظه نكرة ولفظ الذي هو نعت له معرفة كان صَوَابا؛ كما قالُوا: هذا مِثْلك قائمًا، ومثلك جميلًا.
{هَاذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ}.
وقوله عزّ وجل: {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} رفعت الحميم والغسَّاق بهذا مقدّمًا ومؤخرًا. والمعْنَى هذا حَمِيم وغسَّاق فليذوقوه. وإن شئت جعلته مستانفًا، وجعلت الكلام قبله مكتفِيًا؛ كأنك قلت: هذا فليذوقوه، ثم قلت: منه حميم ومنه غسَّاق كقول الشاعر:
حَتّى إذا مَا أضَاء الصُّبحُ في غَلَسٍ ** وغودر البقلُ مَلْوِىّ ومحصودُ

ويكون {هذا} في موضع رفعٍ، وموضع نصبٍ. فمن نصب أَضمر قبلهَا نَاصِبًا كقول الشاعر:
زيادتَنا نُعمان لا تَحْرِمَنَّهَا ** تَقِ اللهَ فينَا والكتابَ الذي تتلو

ومنْ رفع رفع بالهاء التي في قوله: {فَلْيَذُوقُوهُ} كما تقول في الكلام: الليلَ فبادرُوه واللَّيْلُ.
والغساق تشدّد سينُه وتخفّف شدّدها يحيى بن وثّاب وعامّة أصحاب عبد الله، وخفّفها الناس بَعْدُ. وذكروا أنّ الغسّاق بارد يُحرق كإحراق الحميم. ويقال إنه ما يَغْسِق ويسيل من صَديدهم وجلودهم.
{وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}.
وقوله: {وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} قرأ الناس {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ} إلاّ مجاهدًا فإنه قرأ {وَأُخَرُ} كأنه ظنّ أن الأزواج لا تكون من نعتٍ واحِدٍ. وإذا كان الاسم فعلًا جاز أن ينعت بالاثنين والكثير؛ كقولك في الكلام: عذاب فلان ضروب شتّى وضربان مختلفان. فهذا بَيّن. وإن شئت جَعلت الأزاوج نعتًا للحَميم وللغساق ولآخر، فهنَّ ثلاثة، وأن تجعَله صفة لواحد أشبهُ، والذى قال مجاهد جَائز، ولكنى لا أستحبّه لاتّباع العَوَامّ وبيانِه في العربيَّة.